سورة المؤمنون - تفسير تفسير القشيري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


الحقُّ- سبحانه- لا يستتر عن رؤيته مُدْرَكٌ، ولا تخفى عليه- من مخلوقاته- خافية. وإنما الحُجُبُ على أبصارِ الخَلْقَ وبصائرهم؛ فالعادةُ جاريةٌ بأنه لا يخلق لنا الإدراك لِمَا وراء الحَجُبِ. وكذلك إذا حلَّتْ الغفلةُ القلوبَ استولى عليها الذهول، وانسدَّت بصائرها، وانتفت فهومها.
وفوقنا حُجُبٌ ظاهرة وباطنة؛ ففي الظاهر السمواتُ حجبٌ تحول بيننا وبين المنازل العالية، وعلى القلوب أغشية وأغطية كالمُنْية والشهوة، والإرادات الشاغلة، والغفلات المتراكمة.
أمَّا المريدون فإذا أَظَلَّتْهُم سحائب الفَتْرَةِ، وسَكَنَ هيجانُ إرادتِهم فذلك من الطرائق التي عليهم.
وأما الزاهدون فإذا تحرّكَ بهم عِرْقُ الرغبة انْفَلَّتْ قوة زهدهم، وضَعُفَتْ دعائمُ صَبْرِهم، فَيَتَرَخَّصُون بالجنوحِ إلى بعض التأويلاتِ، فتعودُ رغباتهم قليلاً قليلاً، وتَخْتَلُّ رتبةُ عزوفهم، وتَنْهَدُّ دعائم زهدهم، وبداية ذلك من الطرائق التي خَلَقَ فوقهم.
وأما العارفون فربما تِظِلُّهم في بعض أحايينهم وَقفةٌ في تصاعد سرِّهم إلى ساحات الحقائق، فيصيرون مُوقَفِين ريثما يتفضّلُ الحقُّ- سبحانه- عليهم بكفاية ذلك فيجدون نفاذاً، ويرفع عنهم ما عاقهم من الطرائق.
وفي جميع هذا فإِنَّ الحقَّ سبحانه غيرُ غافلٍ عن الخلقِ، ولا تاركٍ للعِباد.


أنزل من السماء ماءَ المطر الذي هو سببُ حياةِ الأرضين، وذلك بقدرٍ معلوم. ثم البلادُ مختلفةٌ في السَّقْي: فبعضها خِصْبٌ، وبعضها جَذْبٌ، وسَنةً يزيد وسنةً ينقص، سنةً يفيض وسنةً يغيض.
كذلك أنزلنا من السماء ماءَ الرحمة فيحيي القلوب، وهي مختلفة في الشُّرْب: فمِنْ موسَّع عليه رزقه منه، ومِنْ مُضَِيِّقٍ مُقَتَّرٍ عليه. ومِن وقتٍ هو وقت سحٍّ، ومنْ وقتٍ هو وقت حَبْسٍ.
ويقال ماء هو صوب الرحمة يزيل به دَرنَ العُصَاةِ وآثارَ زلّتِهم وأوضارَ عثرتِهم. وماء هو سقي قلوبهم يزيل به عطَشَ تحيهم، ويحيي به موات أحوالهم؛ فَتَنْبُت في رياض قلوبهم فنونُ أزهار البسط، وَصنوف أنوار الروح. وماءٌ هو شراب المحبة فيخص به قلوباً بساحات القرب، فيزيل عنها به حشمة الوصف، وَيسكن به قلوباً فيعطلها عن التمييز، وَيحملها على التجاسرِ ببذل الرُّوح؛ فإذا شربوا طَرِبوا، وإذا طَرِبوا لم يُبالوا بما وَهَبوا.


كما يحيي بماءِ السماءِ الغياضَ والرياض، ويصنِّف فيها الأزهارَ والأنوارَ، وتثمر الأشجارُ وتجري الأنهار، فكذلك يَسْقِي القلوبَ بماءِ العرفان فتورق وتثمر بعدما تزهر، ويؤتى أُكلَها: من طيب عيش، وكمالِ بسطٍ، ثم وفورِ هيبة ثم رَوْحِ أُنسٍ، ونتائجِ تَجَلِّ، وعوائد قُرْبٍ إلى ما تتقاصر العباراتُ عن شرحه، ولاَ تطمع الإشارات في حَصْره.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8